الأحد، 13 يوليو 2014

أمَـلٌ وواقِـعِيـّة !


يقول الله تعالى
"قُلِ اللَّـهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿٢٦﴾ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ۖ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ۖ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ"
آل عمران (26-27)
وكأن الله عز وجل يعطينا جرعة مركزة من الأمل والواقعية - ممتزجين لا ينفكان - في هاتين الآيتين الكريمتين.

فالله عز وجل يبدأ ببث جرعة من الواقعية المُستبشرة في قلوب المؤمنين وذلك بتقرير ناموس كوني وهو أن المُلك والعِزّة لا يقتصران - لا هما ولا ضدهما - على المؤمنين أو على على أعدائهم, فالأيام دُوَل تتبدل ما بين الفريقين بحلوها ومرها.

ثم يقرر الله تعالى نفس الحقيقة في صورة توضح كيفية تغلب الباطل على الحق ( تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ ), فليل الباطل لابد - في هذا الواقع - أن يحل محل نهار الحق, لكن هذا ليس مدعاة لليأس أو الظن أن ليل الباطل هو الأصل اذ أنه ما يلبث هذا الظلم حِقبةً حتى يحل محلة نهار الحق من جديد (وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) مبددًا له, لكن يجب على المؤمنين حينها أن يدركوا أن هذا ليس بدائم وألا يفرحوا الفرح الذي يدفعهم للخلود إلى الأرض وترك الرباط في سبيل الله, ذلك أن ليل الباطل قادم من جديد يوما ( تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ) فلا يأس حينها, انها ببساطة سنة الله في الحياة الدنيا! 

ثم يبث فينا الله عز وجل مجددا جرعة من الأمل تليها جرعة من الواقعية الضابطة لهذا الأمل, فيقرر أن القوم الفاسدين سيخرج من أصلابهم قومًا صالحين (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) وسيخرج أيضا من جمهور الفاسدين من يتوب إلى الله معلنا حياته بعد موته ليصير في جانب الحق بعد أن كان في صف الباطل!, فلا ينبغي أن نبتأس من وجود الفاسدين إذ أنهم يحملون في داخلهم نواة الصلاح الذي سينمو منها يومًا - بإذن الله - حياة مترعرعة خَضِرَة. ثم حين يأتي الصالحون ينبغي أن نعلم أيضا أنه من سنة الله أنه سيُخرِج من أصلابهم قوما فاسدين (وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) , ليس هذا فحسب, بل سيَضِل البعض من هؤلاء الصالحين ليخرجوا من الحياة إلى الموت بتركهم أهل الحق وانضمامهم لأهل الباطل.

ثم يقرر الله الحقيقة النهائية (وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) المتممة للحقيقة الأولى في أول الآيات (قُلِ اللَّـهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ) التي تعلمنا نحن المسلمين أن نستسلم لقضاء الله وقدره بعد أن اجتهدنا في دحر الباطل قدر استطاعتنا, ذلك أن الأمر كلُه بيد الله تعالى يتصرف فيه بحكمته ليبلونا أيُّنا أحسن عملا بابتلائنا بالسَرّاء تارة وبالضَـرّاء تارة..

فالحمد لله رَبِ العالمين ... 

والله أعلم

الجمعة، 11 يوليو 2014

عالمنا المادي والصلاة !!


العالم المادي الذي يأسر أجسادنا هو كمبنىً ضيق له جدرانٌ سميكة لا يمكن للأجساد اختراقها, إلا أن الأرواح قادرة - ان اجتهدت - على الفكاك من أسر الجسد بل من أسر العالم المادي كله فارّةً بنفسها إلى الله, لتسبح في خشوع في بحر منير, بحر اطمئنانها بالله ... بَيدَ أن هذا لا يتأتي لجميع الأرواح, فمن الناس من انحبست روحه في جسده وطال عليها الأمد كذلك حتى نسيت أنها روح! وتطبعت بطباع الجسد الطيني فصارت طينا !
لكن الله الرحمن الرحيم قد شق لنا خمس نوافذ في عالمنا نستطيع ان أمعنّا النظر خلالهم أن يأخذ حينها كل من روحنا وجسدنا طبيعته المناسبة! ,, حيث يخضع الجسد ساجدا لله فترتقي الروح محلقةً لتقتبس من نور الله ... 



الصلوات الخمس هي تدريب للأرواح على الانطلاق والتحرر من أسر المادة! حتى إن فرغنا من الصلاة استطاعت أرواحنا - بحسن تدريبها حين الصلاة - التفلت شيئا فشيئا من أسر المادة المظلمة الكئيبة!

إلا أن مِنَّا من ينظر من النوافذ مغمضا عينيه! ومنا من ينام على حافة النافذة فلا يفيده وقوفه عندها, ومنّا من يظن استكبارا أنه ليس في حاجة لتحرير روحه وتدريبها على التحرر بالنظر عبر النوافذ!!
سبحان الله لجحود ذلك الإنسان! اذ يحرره الله ويأبى إلا أن يرتمي في أحضان الأسر ويندمج به حتى لا يمكن التمييز بينهما.

صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم اذ كان يقول لبلال رضي الله عنه "أرحنا بها يا بلال"

اللهم اهدنا سبيل الرشاد ونجنا من ظلمات الشهوات والشبهات.

الجمعة، 4 يوليو 2014

مُخَير أم مُسَير؟! (2)

المشكلة في هذا السؤال "هل الإنسان مخير أم مسير؟" هو أن المصطلحات "مخير" و "مسير" لا يتم تحريرهما (تعريفهما والفصل بينهما) جيدا قبل اجابة السؤال, وغالبا تكون كلا الاجابتين عندها - إن اجيبتا دون تحرير المصطلحات - غير مرضية لطوائف من الناس ولهم الحق في ذلك.
-
وحيث أن القرآن الكريم هو كتاب الله المُعجز الذي يصيغ اجابة الشبهات في ادق واقصر وابلغ اجابة فقد اجاب الله تعالى على هذا السؤال في آية واحدة!
.
"وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّـهُ ۚ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا" ﴿الإنسان - ٣٠﴾ 
.
واعجاز الآية أنها لم تجب بلا "مخير" ولا "مسير" ! بل اثبتت مشيئتين يظهر أنهما متعارضتين لكنهما حقيقةً غير متعارضتين كما سيأتي:
.
ولنضرب مثالا توضيحيا لكيفية تناغم المشيئتين:
-----------------------------------------
افترض ان أحد الناس اجلسك أمام كمبيوتر وطلب منك ان تتبع التعليمات المذكورة في ملف الإرشادات الموجود على سطح المكتب Desktop. فجلست انت وفتحت الملف لتجد فيه الآتي:
"المطلوب برمجة برنامجا بشرط ان يكون هذا البرنامج مفيدا وغير ضار (مثل الفيروسات الكمبيوترية)"
.
حسنا... الآن امامك احتمالان وكلاهما تستطيع عملهما ان اردت, وهما ان تكتب البرنامج المفيد او الفيروس. لكنك ستضطر ان تكتب ما تريده في اوامر يسمح بصيغتها نظام التشغيل الموجود على هذا الكمبيوتر لأنك تستطيع كتابة برنامج لكنك حين تهم بتنفيذه قد تُفاجأ بإشارة "خطأ" error لأنك مجبر ان تصيغ برمجتك بقواعد معينة لا يسمح نظام التشغيل إلا بها.
وحين تنهي البرنامج - سواءا كان خيرا او شرا - فلست انت من ينفذه بل معالج الكمبيوتر processor هو الذي ينفذه حسب ما كتبته لأن ما كتبته لا يخرق القواعد المُبرمجة مُسبقا من صانع الكمبيوتر.
-
وفي هذا المثال تلك المقابلات بين المثال والواقع:
---------------------------------------
1- كتابتك البرنامج قبل تنفيذه تقابل ارادتك الحرة في الواقع
2- القواعد التي يجب عليك الالتزام بها والا لما تم تنفيذ البرنامج (ارادتك الحرة) هي قوانين الطبيعة في الواقع.
3- نظام التشغيل هو المنظومة الموجود مسبقا التي سمحت لك بأن تكتب اصلا وان تجد ملف الإرشادات. وهو الكون في الواقع . الكون الذي لا يحدث شيء داخله الا ان كان موافقا لقوانين الطبيعة!
4- ملف الإرشادات هو الدين في الواقع
5- عمل المُعالج هي ارادة الله سبحانه في الواقع, فإن الله يفعل لك ما تريد ان التزمت بالقواعد التي وضعها سبحانه بإرادته في الكون, وذلك بغض النظر عن ان كان يحب ما فعلت ام يكره, لأنك في الواقع في اختبار ومن خصائص الاختبار الا يصحح لك واضع الاختبار حل الأسئلة ان كان خاطئًا بل يقبل منك الأسئلة ان التزمت وكتبتها في الورقة المسموح لك الإجابة فيها وبالنظام المطلوب (من كتابة اسمك ورقم جلوسك وكتابتك بقلم واضح الى آخره ... ).
-
-
وعليه ففي المثال نرى أمرين:
------------------------
1- أنك مخير تماما في كتابة ما تريد, حتى ان كان فيروسا (انك مخير في ان تريد (تنوي) خيرا ام شر)
2- أنك لن تستطيع تنفيذ برنامجك الا ان سمح نظام التشغيل بهذا, فإن التزمت بقواعده نفذها لك المُعالِج processor وإلا فلا ينفذها مهما كانت كتابتك. (انه مهما كانت ارادتك فلن يتحول منها الى واقع الا ما وافق قوانين الطبيعة)
3- انك لا تستطيع تنفيذ البرنامج بذاتك لكن المُعالج processor هو الذي ينفذ لك برنامجك (ارادة الله تحول اراداتك - الملتزمة بقوانين الكون وسننه - من مجرد ارادة الى واقع ملموس, والا فإنه "لا حول ولا قوة إلا بالله" , اذ انك لا تستطيع تنفيذ شيء الا بقدرته)
-
ارجو ان يكون الأمر قد وضح
---
والله أعلم
.

مواضيع ذات صِلة:
-----------------
الجبر والاختيار, عقيدة وعمل
http://cleardeepthinking.blogspot.com/2010/05/blog-post_06.html
.
مُسَير أَمْ مُخَير (1)
http://cleardeepthinking.blogspot.com/2008/05/blog-post_07.html

فعالية الدعاء بين “رفعت الاقلام وجفت الصحف” وبين “ادعونى استجب لكم”
http://cleardeepthinking.wordpress.com/2014/04/19/%D9%81%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%B9%D8%A7%D8%A1-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%B1%D9%81%D8%B9%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%82%D9%84%D8%A7%D9%85-%D9%88%D8%AC%D9%81%D8%AA-%D8%A7%D9%84/

الخميس، 3 يوليو 2014

مفهوما النجاح والفلاح عند المسلم المعاصر: تناغم أم صراع؟!


اكبر مشكلة تواجه "المسلم المتدين المتفوق" في عصرنا هو الانفصام الذي يعيشه بين دنياه ودينه وبين أولاه وآخرته. المشكلة الكبرى انه نشأ على البناء للدنيا لأنه تلقى تربيته وتعليمه إما من غافلين عن مقاصد الدين وإما من منغمسين في احتياجات الدنيا, فنشأت منظومته الفكرية على هذا, على النجاح في الدنيا, الا انه عندما استمسك بالإسلام - غالبا بعد نشأته - حدث له اضطراب! اذ انه حاول ان يصيغ عمله للآخرة في نفس القالب الذي بُني عليه فِكرُه! فحاول ان يركب قالب الفلاح في الآخرة على قالب النجاح في الدنيا مع كونهما ليسا متناغمين, فركبهما لكن بالضغط, اذا انه اضطر لاجبارهما على التماسك بدلا من ان يتماسكا تلقائيا بارتياح! فأصبح المسلم النابه المخلص يعيش صراعا ويحاول التغلب عليه بوسائل منها على سبيل المثال "تحويل العادة الى عبادة بأخذ النية لكل عادة" ... وكأن العادة ليست عبادة في اصل ديننا فلزمها هذا التحويل ... !

أين المشكلة؟
----------------
العامل الرئيسي في هذا هو عدم تحديد مفهوم "النجاح" بشكل صحيح. المشكلة اننا نحدد النجاح اولا وننتهي من تحديده ثم نحاول تركيب قالب "الفلاح" عليه!
النجاح بالنسبة للشاب المسلم هو التفوق والوظيفة المرموقة والزواج السعيد والثراء وووو , هذا هو تحديدا, والفلاح هو ان ينتهي من كل هذا ثم يدخل الجنة! لكنه يحاول جاهدا مواءمة هذا مع ذاك باتخاذ النوايا, وغالبا ما يكون هذا غير مصحوب في حتى تعديل نشاطه الذي يقوم به والذي قد حدده مسبقا لينال "النجاح", انه بالكاد "يضبط نواياه" في كل عمل!
-
أين الحل؟
------------
الحل هو ان نشكل ابناءنا فكريًا بكيفية مختلفة تماما عما تشكلنا بها, وفي الآن ذاته نحاول اكمال مسيرة حياتنا بتعديل اطارنا الفكري. الا ان هذا التعديل لن يتأتى الا بإعادة تعريف "النجاح"!

النجاح.. ما هو؟!
------------------
يمكن ان نعرفه تعريف بسيطا انه تحقيق الأهداف التي تم وضعها مسبقا

كيف الحل؟!
-------------
الحل هو ان تكون الأهداف من البداية ليست الا دستورا نضعه لخدمة هدف وحيد وهو فعل ما يحبه الله واجتناب ما يكرهه الله , اي بمصطلح واحد "عبادة الله",  فيما يناسب موقعنا من المكان والزمان والظروف! فإن كانت الأهداف مصاغة صياغة سليمة تجنبنا الصراع فيما بعد! اذ ان النجاح سيكون هو ارضاء الله تعالى في بحر حياتنا, وسيكون بالتالي مؤديا بسلاسة ويسر ودون صراع الى الفلاح الأبدي في الجنة!
وهذا الحل يحتاج وعيا كبيرا بالواقع من حولنا! اذ ان اهدافنا ومهامنا ستنبني على كيفية تأدية وظيفتنا وهي عبادة الله في ظل الواقع الموجود في حياتنا بالفعل بحيث نحوله الى واقع افضل وبالتالي نكون قد حققنا استعمار الله ايانا في الأرض واستخلافه لنا فيها بهذا الاستعمار.

الخلاصة:
-----------
الخلاصة هي ان الحياة القويمة للمسلم لن تتأتى الا عندما تكون الآخرة امتدادا طبيعيا سلسا للدنيا, متناغمة معها, بحيث يكون النجاح في الدنيا هو الوسيلة الوحيدة, الضرورية والكافية, للفلاح في الآخرة, وان يكون الفلاح في الآخرة هو جزاء طبيعي للنجاح في الدنيا! ذلك النجاح الذي اعدنا تعريفه بإعادة تعريف الأهداف والمهام .

والله اعلم